Skip to main content

KSA ZakariaMohamedAli

أفرجت السلطات السعودية في 17 مارس 2014 على المواطن الصومالي السيد زكرياء محمد علي، ورحلته إلى الصومال، الأرض التي رأي فيها النور، وتركها وهو في سن الثالثة رفقة والديه متوجهين إلى السعودية حيث أمضى طفولته وشبابه. درس هناك واشتغل وأصبح جزءا من النسيج الاجتماعي. كان يردد أن السعودية وطنه، إلى أن وجد نفسه في عهدة المباحث التي اعتقلته وسجنته قرابة السنة دون أن يعرف سببا لذلك. أفرج عنه بعد 321 يوما من الاعتقال التعسفي، واقتيد إلى المطار مباشرة دون اعتذار أو تعويض، أو حتى السماح له بجمع جاجياته، ورحل إلى مسقط رأسه الصومال.

بعد الإفراج عنه، وجه السيد زكرياء رسالة شكر إلى الكرامة، التي تضامنت معه ورفعت قضيته إلى آليات الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان. وأرفق برسالته هذه الشهادة الموجزة التي يصف فيها كيفية إلقاء القبض عليه وظروف اعتقاله وترحيله...

 

الحمدالله الذي لا يحمد على مكروه سواه، والحمدالله على نعمة الحرية، والشكر لذي الجلال والإكرام على السلامة والعافية، وأرفع إلى أبواب السماء دعواتي الصادقة بالفرج القريب لكل حر شريف فاجأته الأقدار بمصيبة "الاعتقال التعسفي" دون ذنب ارتكبه أو جرم أحدثه أو جريرة اقترفها (ولاتحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون).
في تمام الساعة الواحدة بعد الظهر يوم السبت بتاريخ 20 أبريل 2013 كنت جالسا – بسعادة وفرح – في مكتبي الجديد بعد ثلاثة أيام من ترقيتي إلى منصب مدير عام إدارة المراجعة الداخلية بشركة أمانة للتأمين التعاوني – من كبريات شركات التأمين بالسعودية – والموجودة بمدينة الرياض، في تلك الساعة كنت منشغلا بكتابة تقرير رقابي مهم للإدارة التنفيذية حينما فاجأني مدير إدارة الموارد البشرية بخبر وجود رجال المباحث العامة في الشركة من أجل اعتقالي دون إبداء الأسباب!.. واكتفى رجال المباحث بإخبار مسؤولي الشركة بأن أمر الاعتقال صادر بشكل مباشر عبر برقية موجهة من وزارة الداخلية إلى مدير عام مباحث منطقة الرياض!
بعد إخراجي من الشركة اقتادني رجال المباحث في سيارتين مدنيتين – لا تحمل لوحات أو هوية – إلى سجن المقر الرئيسي للمديرية العامة للمباحث في المملكة والموجود خارج مدينة الرياض على طريق الدمام، وذلك بعد أن قاموا بتفتيشي ذاتيا وصادروا هاتفي المحمول وجهاز الحاسب وجميع أوراقي وبطاقاتي الشخصية، كما قاموا بتفتيش مكتبي وسيارتي ومنزلي بدقة شديدة مع كتابة جميع المضبوطات، حيث قاموا بمصادرة بعض الكتب والمستندات والإسطوانات المضغوطة بالإضافة إلى جهاز الحاسب الذي يخص زوجتي وجميع وسائط التخزين.. ومرة أخرى رفض رجال المباحث ذكر أسباب الاعتقال والضبط والتفتيش وأمروني بالتزام الهدوء وعدم السؤال!
في السجن قمت بتغيير ملابسي ولبست ملابس السجناء "الزرقاء" حيث تم إيداعي في زنزانة انفرداية لمدة شهرين (10 أيام في الرياض والباقي في سجن ذهبان بجدة)، وفي سجون المباحث يمنع عن نزيل الزنزانة الانفرادية جميع وسائل التواصل مع العالم من جريدة أو كتاب أومجلة أو تلفاز أو زيارة أو حتى مكالمة مع العائلة!.. وحسب تعليمات ضباط السجن الصارمة؛ لا يسمح بإدخال أي شيء إلى الزنزانة – المراقبة من الداخل بكاميرا تلفزيونية على مدار الساعة – باستثناء الفراش والبطانية والسجادة والمصحف، كما لا يسمح بالخروج من الزنزانة إلا إلى المستشفى أو إدارة التحقيق أو ساحة صغيرة للتشميس (التعرض للشمس) لمدة 15 دقيقة كل يومين مع وضع أصفاد على اليدين وقيد على القدمين وغمامة تعصب على العينين!.. ونظرا للفصل الهيكلي المتبع في جهاز المباحث بين إدارة السجن وشعبة التحقيقات فلم يستطع أحد من ضباط السجن إخباري عن سبب وجودي في هذا المكان المخيف!
في غرفة التحقيق وفي ساعة متأخرة من الليل؛ أمرني المحقق بالوقوف، وكانت عيناي معصوبتان ويداي مقيدتان ورجلاي مكبلتان، ثم طالبني بأن أسرد قصة حياتي منذ ولادتي وحتى القبض علي مرورا بجميع مراحل الدراسة والعمل والتوجهات والأفكار بل وحتى جميع الأسفار خارج المملكة، وأمرني بالإفصاح عن أفكاري الحقيقية التي وصفها بـ"المعادية" للدين والدولة، واتهمني المحقق بالانحراف الفكري واعتناق العلمانية ومحاولة تشكيل خلية سرية لإفساد المجتمع السعودي، وسألني عن سبب اهتمامي بالفلسفة والفكر النقدي ومبادئ حقوق الإنسان، وماذا أقصد بحديثي المتكرر في مكالماتي الهاتفية – التي تبين لي أنها كانت مراقبة لأكثر من ستة أشهر – عن الحرية والتغيير وضرورة محاربة القمع ومكافحة التخلف ونقد التشدد الديني والدفاع عن حقوق المرأة، وماذا كنت أدبر في الخفاء مع أصدقائي الذين كنت أجتمع معهم نهاية كل أسبوع للأنس وتبادل أطراف الحديث، وما هي حقيقة علاقتي ببعض المعتقلين ممن تم اتهامهم بالإساءة إلى الدين الإسلامي والثوابت الوطنية للحكومة السعودية!
كانت الاتهامات مفاجئة وخطيرة جدا ولا أساس لها من الصحة، فأنا معروف لدى الجميع بتوجهاتي السياسية الإيجابية تجاه الحكومة السعودية، وباحترامي للثقافة الدينية السائدة لأنني تربيت عليها منذ نعومة أظفاري، واهتمامي بالفكر الإنساني الحديث نابع من إيماني بضرورة الاستفادة من تجارب الأمم المتحضرة، ونقدي للتشدد الديني أو وضع المرأة أو أداء بعض الأجهزة الحكومية لا يعني العداء للدولة السعودية، وكل هذا يتعارض تماما مع كل ما ورد في لائحة الاتهامات الجائرة التي وجهها إلي ضابط التحقيق.
كان ذلك التحقيق تحقيقا أوليا، تلاه تحقيق طويل بعد شهر ثم تحقيق تكميلي ثالث بعد خمسة أشهر، وبعد المصادقة على الاعترافات (تتضمن سردا لسيرتي الذاتية فقط، فأنا قد رفضت جميع التهم) في المحكمة سألني القاضي عن سبب الاعتقال فأجبته أنني متهم بالانحراف الفكري ظلما وزورا، والعجيب أن القاضي أمرني بالتوبة إلى الله إن كان ذلك صحيحا!.. فأجبته أن ضمائر الناس يحاسب عليها رب العباد ولا يحق لأحد أن يسجن إنسانا بسبب أفكاره فهذا ظلم عظيم.. فأجابني بأن الدولة تقمع المتشددين التكفيريين وتأمر بحبسهم حماية للناس من شرورهم، وهذا القمع مطلوب أيضا في حق الليبراليين من أمثالك ممن يهتمون بالفلسفة والأفكار الغربية الهدامة لأن خطرهم على الناس أعظم وشرهم أكبر! على حد قوله.
تم نقلي من جناح الزنزانات الانفرادية – المؤلمة والقاسية والموحشة – بعد شهرين إلى جناح الزنزانات الجماعية، حيث يتشارك أربعة أشخاص على الأكثر زنزانة تبلغ مساحتها 6x5 أمتار، ويسمح لنزلاء هذه الزنازين مشاهدة التلفاز وقراءة الكتب وتصفح الجرائد ومكالمة الأهل مرة في الأسبوع والزيارة العائلية مرة في الشهر والخلوة الزوجية مرتين في الشهر، مكثت في هذه الزنازين بقية فترة اعتقالي التي استمرت قرابة سنة هجرية أنتظر خلالها معرفة مصيري، حيث كتبت عدة خطابات إلى مدير السجن أطلب فيها معرفة مصير قضيتي، وهل سينتهي بي الحال سجينا لسنين طويلة بلا محاكمة كما هو حال السجناء الذين كانوا معي في الزنزانة؟! أحدهم سجين منذ أحد عشر عاما والآخر منذ ست سنوات والثالث منذ أربع سنوات وجميعهم بلا محاكمة أو لائحة إدعاء قانونية، ولا حاجة لذكر الحالة النفسية والصحية لمن جلبه حظه التعيس إلى ذلك المكان الرهيب!
وبعد تسعة أشهر عجاف خالطها الخوف من المصير المجهول والرجاء برحمة السماء، جاءني ضابط إلى الزنزانة مساء يوم الاثنين الموافق 17 مارس 2014 وناداني وأمرني أن أجهز نفسي وأستعد لإبعادي من السعودية فجر اليوم التالي، فلا تسل لحظتها عما خالط قلبي من مشاعر فرحة عارمة، وهويت إلى الأرض ساجدا لله العزيز الرحيم غير مصدق أنني سأخرج من ذلك السجن، وعانقني زملاء الزنزانة وبكينا جميعا وغنينا واحتفلنا وكانت سعادتهم بخلاصي لا توصف، وبعد انتهاء الاجراءات وتوقيعي على بعض الأوراق وتسجيل بصماتي وصورتي وجميع بياناتي، تم اصطحابي إلى المطار وإركابي إلى الطائرة حيث قام العساكر بفك أصفاد يدي وقيد رجلي وإزالة الغمامة من عيني لأول مرة خارج السجن، وشعرت حينها بعظمة هبة الحرية التي لا طعم للحياة بدونها!
تم إبعادي من السعودية بعد أكثر من ثلاثين سنة عشتها كابن مخلص من أبنائها، تم إبعادي بلا ذنب أوتهمة أو جريرة، وتم انتهاك حقي في الحياة الكريمة دون تعويض أو تكريم أو تقدير، أتيت إلى السعودية طفلا بريئا متحمسا وخرجت منها شابا مكبلا مظلوما، عشت في هذا البلد أتمنى الخير لأبنائه والرفعة لقادته والسلامة لأرضه، فكان الجزاء اعتقالا تعسفيا واتهاما جائرا وسجنا موحشا وإبعادا لا مبررا!
لكنها إرادة السماء التي لا ترد، والقدر الذي جف به القلم قبل ميلادنا لحكمة لا نعلمها، وأعلم أن الراحة لا تدرك إلا على جسر من التعب، والضربة التي لا تقتلك قد تقويك، وأنا موقن الآن أكثر من أي وقت مضى أن المستقبل للأحرار، ولا كرامة لأعداء الحرية!